مرت خمس سنوات على انفجار مرفأ بيروت الذي هزّ العاصمة اللبنانية في الرابع من آب 2020، لكن آثار الكارثة ما زالت حية في ذاكرة الناجين، بينما تتعثر جهود تحقيق العدالة وسط متاهات السياسة والتحقيقات المعلّقة. الانفجار، الذي صنّف كواحد من أكبر الانفجارات غير النووية في التاريخ، لم يترك وراءه فقط دمارًا ماديًا، بل مزّق نسيج الثقة بين اللبنانيين ودولتهم، التي تركتهم يواجهون مصيرهم بمفردهم.
الانفجار، الذي نُسِب إلى تخزين غير آمن لـ2750 طنًّا من نترات الأمونيوم في العنبر 12 بمرفأ بيروت، خلَّف أكثر من 230 قتيلًا و6500 جريح، بالإضافة إلى دمارٍ هائل في أحياء بكاملها. لكنَّ الأكثر إيلامًا هو أنَّ الدولة اللبنانية، بدل أن تكون ملاذًا للناجين، تخلَّت عنهم تمامًا، تاركة إياهم يواجهون مصيرهم بمفردهم في بلدٍ ينهار يومًا بعد يوم.
من قلب الكارثة
"منذ لحظة الانفجار وحتى اليوم، مرّت خمس سنوات وأنا أعيش في معاناة يومية"، تقول مريم عمار، إحدى الناجيات من الانفجار: "أتناول الأدوية صباحًا ومساءً بسبب الأزمة النفسية التي أصابتني. أتنقل من مكان إلى آخر لتأمين دوائي، وسط ظروف معيشية صعبة. لم يلتفت أحد إلينا، وكأننا غير موجودين".
مريم، مثل آلاف الجرحى، تُركت دون تعويض أو رعاية طبية كافية. حتى عندما تعرَّضت لحادث سير مؤخرًا، رُفِض استقبالها في المستشفيات الحكومية. "حملتُ بطاقة الإعاقة، لكن لا أحد ساعدني. اضطررتُ للبحث عن شخصٍ طيّب لينقذني"، تضيف مريم، التي فقدت سمعها وأسنانها وتحتاج إلى 5 عمليات جراحية.
..ضائع في متاهات سياسية
أمّا إبراهيم حطيط، رئيس "تجمع أهالي شهداء وجرحى انفجار المرفأ"، فيؤكّد أنَّ المسار القضائي تحوَّل إلى ساحة صراعٍ سياسي منذ البداية، قائلاً: "من اللحظة الأولى، لاحظنا أنَّ هناك استهدافًا للحادث، حتى قبل أن ينقشع الدخان"، يقول حطيط".
ويشرح، كيف تحوَّلت مطالب العائلات البسيطة –معرفة الحقيقة ومحاسبة المسؤولين– إلى أداةٍ في صراع القوى، "رفضنا تسييس التحقيق، لكن بعض الأطراف حاولت توظيف قضيتنا لتحقيق مكاسب سياسية"، مشيرًا إلى أنَّ بعض الأحزاب حاولت التسلل إلى حركة العائلات عبر رجال دين وناشطين.
في هذا السياق، يوضح المحامي يوسف لحود، أن أبرز المعوّقات التي واجهت التحقيق لم تكن معوّقات قانونية، وإنما معوّقات تعسفية، أي تجاوز للقانون". ويشير إلى أن قاضي التحقيق اضطر إلى اعتماد اجتهادات قانونية خاصة لتجاوز هذه العوائق وإعادة سير الدعوى إلى مسارها الطبيعي.
ويؤكد لحود، أن "استمرار القاضي في أعماله رغم الجدل الإعلامي والسياسي هو دليل على استقلالية القضاء"، مضيفاً أن "هذه الصلابة في مواجهة الضغوط تدل على جرأة القاضي والتزامه بواجبه المهني والإنساني والوطني".
مواجهة العوائق السياسية
يكشف المحامي لحود أن التحقيق استطاع، رغم كل الصعوبات، أن "يسير باجتهادات تصب في مصلحة سير العدالة وليس لأي مصلحة أخرى". ويوضح أن "العراقيل لم تعد فعالة بفضل صلابة المحقق العدلي واجتهاداته التي فصلت بين هذه العوائق وسير الدعوى".
ويضيف: "نحن الآن في المراحل النهائية للتحقيق، ولم يتبق سوى استكمال بعض الإجراءات الشكلية قبل إصدار قرار الاتهام النهائي وانتقال القضية إلى مرحلة المحاكمة".
وفي معرض دفاعه عن استقلالية القضاء اللبناني، يرفض المحامي لحود فكرة اللجوء إلى القضاء الدولي، قائلاً: "نؤمن بالقضاء الوطني وبجدارته وأهليته واستقلاليته"، معتبراً أن "القضاء الأجنبي قد لا يكون ملمّاً بالتفاصيل والدقة التي يمتلكها القضاء المحلي".
ولا يخفي لحود تعرض العاملين على القضية للتهديدات، قائلاً: "من المبدأ أن يتعرض القاضي أو المحامي في قضايا خطيرة مثل هذه للتهديدات". لكنه يؤكد أن "هذه التهديدات لم تثنِ المحامين عن متابعة عملهم، كما أنها لم تؤثر على قرارات القضاة".
بينما تركّز الرواية الرسمية على "الإهمال الإداري"، تطفو نظريات أخرى، منها تورط إسرائيل أو تفجيرٌ مُتعمَّد. لكنَّ غياب الأدلة القاطعة، ورفض دول مثل الولايات المتحدة وفرنسا مشاركة صور أقمارها الصناعية، أبقى هذه الفرضيات في دائرة التكهنات.
في كانون الثاني 2025، أعاد البيطار تحريك الملف بعد فترة تعليق، مستندًا إلى تفسيرٍ قانوني يسمح له بمتابعة التحقيق رغم الإجراءات ضدّه. وتشير مصادر قضائية لـ"الأخبار"، إلى أنَّه يوشك على إحالة الملف إلى النيابة العامة التمييزية تمهيدًا لإصدار قرار اتهامي.
بعد خمس سنوات، لم يعُد السؤال عن "كيف حدث الانفجار؟"، بل عن "لماذا لم تُحاسب أي جهة؟". لقد دمَّر الانفجار بيروت، لكنَّ ما دمَّره حقًا هو غياب العدالة.
الناجون مثل مريم، وعائلات الشهداء مثل حطيط، يمثّلون وجعًا لا يُحتمل: وجع أن تكون ضحيةً ليس فقط لكارثة، بل لإهمال الدولة وتواطئها. العدالة ليست رفاهية، بل ضرورة لضمان ألا تتكرر المأساة.